السينما للجميع… سينما خلف القضبان

22/03/2019
Image
1
Author
شادي النمري

مشاهدات شخصية
أكتب هذه السطور وأنا أنظر الى ما يقارب المائة شخص مجتمعين حول شاشة سينمائية كبيرة في قاعة مغلقة داخل أسوار عالية. جمهور تجرد من ألقابه ولبس اللون الأزرق السائد هنا. صمت في المكان واندماج في أحداث الفيلم وشخوصه وموسيقاه التصويرية… نحن في مشروع السينما للجميع.

بعيدا عن مراكز المدن والعمران وداخل أسوار محروسة برجال الأمن والأسلاك الشائكة التي تكرس مفهوم العقاب، استطاع مشروع السينما للجميع اختراق جدران الحبس ولقاء ما يقارب 4500 نزيل حتى الآن.

أتذكر كيف راودتني في أول عرض مشاعر مختلطة شتت تفكيري للحظات تجلت في مزج فريد ما بين البهجة والخوف. كنت فرحا وفخورا اننا وصلنا لهذا المكان بعد مشوار لم يكن بالسهل، وكنت مترددا من خوض هذه التجربة للمرة الأولى منذ إطلاق برنامج الثقافة السينمائية في الهيئة الملكية الأردنية الأفلام. شعور مغاير لم أعتده في أي فعالية نظمناها في الهيئة أو خارجها.

لم يكن فيلما جديدا ولم تكن القاعة من جدران ومقاعد مختلفين، بل كان جمهورا مختلفا يحمل في ملامحه الدهشة والغموض داخل مراكز الإصلاح والتأهيل، التي تعرف بالعامية بالسجون، ويعيش في مجتمع معزول عن العالم الخارجي بعيدا عن الحياة الاعتيادية.

كان هدفنا واضحا منذ البداية في دخول هذه الشراكة مع مديرية الأمن العام وإدارة مراكز الإصلاح والتأهيل لتوظيف الثقافة السينمائية في توفير متنفس ثقافي اجتماعي ترفيهي للنزلاء ولتعزيز فرص انخراطهم مع المجتمع خارج أسوار المراكز التي قلما تُنظم فيها فعاليات مشابهة، وذلك بعرض مجموعة مختارة من الأفلام الأردنية التي تتناسب مع شروط اختيار أي نشاط داخل هذه المراكز، وهنا لابد ان نشيد بتعاون إدارة مراكز الإصلاح والتأهيل في تنفيذ المشروع. يبدأ التشويق منذ لحظة دخولنا أسوار المراكز ولهفة النزلاء غير العادية في مساعدتنا في حمل أجهزة الصورة والصوت من شاشة كبيرة ونظام صوتي احترافي الى داخل قاعة العرض.

قمنا بتركيب الأجهزة وتشغيلها وسط دهشة النزلاء لوجود هذه السينما المنتقلة داخل المركز وترقبهم لما سيشاهدونه من محتوى. أمسكت بالميكروفون لأرحب بهم ونظرت برهبة في أعينهم لأعاين العديد من القصص المختلفة التي جمعتنا بهم في هذا المكان.

“أنا قاتل…أنا سارق…أنا متحرش…أنا مغتصب…أنا نصاب” مسميات كثيرة سمعتها داخل هذه الأسوار لرجال أو نساء انتهت بهم أفعالهم بقصد أو بغير قصد في السجن، فحكاية كل منهم هي قصة فيلم بحد ذاته.

بدأ العرض وساد الصمت في القاعة ومع تتالي أحداث الفيلم، ارتفعت أصوات الضحك والتصفيق لتخترق نوافذ المكان ولتصل الى هواء الحرية في الخارج، فيما سادت مشاعر الذهول والحزن في أحيان أخرى، فمجريات الفيلم وأحداثه تبحر في خيال ومشاعر هذا الجمهور بقوة.

مع نهاية العرض، تزاحم حولنا العديد من النزلاء ليشاركونا انطباعاتهم عما شاهدوه أو بالأحرى ليقولوا لنا “نحن هنا ونقدر ما جئتم لأجله”. أحدهم قال: “تمنيت ألا ينتهي العرض اليوم”، وآخر قاطعة “نسيت انني داخل سجن طوال فترة العرض “. وسأتذكر طويلا كلمات أحد النزلاء الذي مضى عليه فترة طويلة داخل السجن: “اليوم حسيت حالي إنسان”. مشاعر صادقة حركتها السينما والأفلام.

من المعلوم أن العديد من النزلاء يعانون من تبعات نفسية مختلفة. أيامهم متشابهة ولا خيار ليهم في أي شي وسبل الترفيه محدودة. ومن هنا تأتي قوة الأفلام والسينما في تأثيرها الإيجابي عليهم ولتخفيف من وطأة العبء النفسي داخل أسوار السجن. ولا شك أن تجاوبهم الكبير مع المشروع هو جزء من محاولة الهروب من وضعهم وفرصة للخروج من فكرة العيش خلف القضبان ولو لقليل من الوقت.

السينما والأفلام قادرة على احداث الفرق. ففي بادرة لا تخلو من الطرافة وبحسب صحيفة ذا جاردنيان ( (The Guardian البريطانية حكم القاضي روبرت جورج في ولاية ميسوري الأميركية على أحد الصيادين، الذين يمارسون صيد الغزلان غير الشرعي، أن يشاهد فيلم والت ديزني التحريكي “الغزال بامبي” مرة واحدة في الشهر على الأقل طيلة فترة وجوده بالسجن التي تعدت السنة ليتعاطف الصياد مع الغزل اللطيف ويعدل عن ممارسته.

لم أتصور يوما أن أصبح زائرا منتظما لجميع مراكز الإصلاح والتأهيل في المملكة وأن ألتقي بآلاف النزلاء داخلها وان تتاح لنا الفرصة في الهيئة لدخول هذا الفضاء المختلف لنترك أثرا إيجابيا ولو بسيطا في حياة البعض داخل أسوار المراكز. فالسينما والأفلام تبني جسور التواصل بين الثقافات المختلفة والمجتمعات الحرة، وتوفير هذه الفرصة لهذا المجتمع المغلق محط فخر واعتزاز.

وتبقى فعاليات مشروع السينما للجميع هي الوحيدة التي نقول فيها للجمهور: نأمل ألا نراكم معنا هنا في المرة القادمة!


شادي النمري: أخصائي مشاريع في الهيئة الملكية للأفلام*