السينما الأردنية الراهنة: واقع وذاكرة

23/05/2023
Image
a
Author
بقلم ناجح حسن

بعد سنوات من الانتظار على الاحتفاء بالفيلم الروائي الاردني الطويل المعنون “ذيب” (2014) للمخرج ناجي ابو نوار، حضرت أربعة افلام اردنية جديدة من النوع الروائي الطويل هي: “الحارة” لباسل غندور و”بنات عبد الرحمن” لزيد ابو حمدان و”بيت سلمى” لهنادي عليان و”فرحة” لدارين سلام، جميعها جالت بالكثير من المهرجانات العربية والدولية ونالت استحسان وجدل النقاد والحضور مثلما ظفرت بجوائز رفيعة هناك.

 

 

لقد بات من الواضح والأكيد، أن السينما الأردنية مع تلك الإنجازات اللافتة وما سبقها من أعمال، أخذت تفرض بصمتها الخاصة على المشهد السينمائي المحلي والعربي بألوان من التعابير السمعية البصرية التي تؤشر على تهيئة ركيزة أساسية لصناعة سينمائية متكاملة، يجري فيها خلق مناخات رحبة من أطياف درامية وجمالية مغمسة بحراك اجتماعي وثقافي وسياسي بديع المحتوى.

 

 

دون أدنى شك، أنجزت تلك الأفلام بميزانيات محدودة التكاليف، ووفق قواعد وأحكام السينما المستقلة، حظيت جميعها بدعم من الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، وكانت النتيجة لافتة بإيقاع العمل الهادئ، والأداء البديع، عدا عن تلك المناخات التي سارت فيها الأحداث ومنحتها جوانب من الحيوية والألق، وهي بذلك تتأسس على تجارب أردنية سابقة: “انشالله استفدت” لمحمود المساد و”الجمعة الأخيرة” ليحيى العبدالله و”الفرق 7 ساعات” لديما عمرو و”مدن ترانزيت” لمحمد الحشكي و”لما ضحكت موناليزا” لفادي حداد و”المنعطف” لرفقي عساف، وهو ما يمنحها القدرة في الإصرار والتصميم والتحدي على تقديم منجز سينمائي أردني يتوازى في قيمته الجمالية والفكرية وما يطرحه من هموم وآمال في عناق مع أسئلة وهواجس الفن السابع.  

 

 

يرسم المخرج باسل غندور في “الحارة” لوحة سمعية بصرية مجبولة بالتكوينات الجمالية الآتية من داخل بيئة صعبة تتشابك فيها العلاقات المضطربة وتنوع الشخصيات المطحونة بالفقر والتعب والبحث عن حياة أفضل بأسهل الطرق، يحضر فيها سمات من وقائع العنف الجسدي واللفظي ومواقف التلصص والغيرة والحسد والكراهية المجبول بالظلم والتهميش الاجتماعي، بحيث يجري تصوير كل ذلك في قوالب موزونة من التصعيد الدرامي، في سعي لبلورة أفق سينمائي جديد عبر مفردات وعناصر تمتلكه مخيّلة مخرجه الخصبة في قدرتها وبراعتها على استعادة تفاصيل من مصائر أفراد دواخل الذات وأغوار الواقع القاسي المشبع بالأزمات والتحديات والتطاحن في علاقاته ورغباته وطموحاته، التي هي أشبه بالعصية عن التحقق.

 

 

“الحارة” متاهة روائية فريدة، تنبش بجرأة في وقائع تستند إلى حكايات أفراد وجماعات، كأن كاميرا الفيلم ترغب بالانفلات من المخيلة الروائية إلى توثيق خفي لأحوال وأوجاع وآلام تسرد بسلاسة ومتانة رؤى وأفكار مشبعة بمواقف التوتر والقلق والحيرة في أتون البحث الشاق عن بصيص من لحظات الشوق إلى آمال لا ترتجى، كما ويحسب للفيلم براعة مخرجه في السيطرة على إدارة طاقم فريقه التمثيلي داخل بوتقة من الأصوات والحركات في مكان ضيق، وهو ما جعل العمل مفعماً بالأشكال والأحداث التي تحفز وجدان المتلقي بالجمل الحوارية غير المألوفة المصاحبة لشريط الصوت والصور التي تفيض بها مفردات الحارة الشعبية، والتي تتجسد في مواقف عديدة كأنها في حالة توق واشتياق لأبعاد إنسانية تنشد أحاسيس ومشاعر إنسانية هي أحوج ما تكون إلى الزهد والتسامح والتواضع مع الآخرين وثقافاتهم، ليؤدي الفيلم دوره البليغ في السعي إلى تشكيل وعي اجتماعي وتنويره داخل بوتقة من التفاصيل المرئية، تفيض بمفردات السرد الحكائي، وما تزخر به عوالم حراك بيئته اليومي، من مناخات العنف والحرمان والغلظة والتعصب والجمود الفكري.

 

 

في السياق ذاته، يكشف فيلم “بنات عبد الرحمن” للمخرج ابو حمدان، عن بيئة أخرى هي أقرب لمعاينة باسل غندور في “الحارة”، إلا أنها تأتي من داخل وجع فتيات أسرة وجدن أنفسهن في عملية بحث شاق عن والدهن الذي اختفى فجأة، ثم تتوالى قصصهن الفردية في خضم عمليات البحث، تذهب فيها الكاميرا إلى أبعاد جمالية هي أقرب إلى تصوير شهادات الشقيقات برؤى سمعية بصرية ذات افتتان بليغ يحتفي بالأمكنة والشخصيات النسوية وقصصهن، في محاولة حثيثة للدنو من حالات تعصف بدواخل كل منهن، أحيانا ثمة أكثر من مقاربة تتباعد أحياناً وتتواصل حيناً فيها أحوال ومصائر الشقيقات الأربع.

 

 

يرتكز البناء الدرامي لفيلم “بنات عبد الرحمن”، على حديّ البساطة والفقد الاجتماعي، في اختزال دقيق لمشوار الفتيات مع محيطهن الإنساني والثقافي في نأي عن الأحكام الاخلاقية، لا بل تتداخل فيه فصول من سيرتهن على نحو يمنح الفيلم الألق في القدرة على الالتحام مع إيقاع حياتهن اليومي، حتى لو شابته تلك الصرخات الحادة داخل مسارات متداولة ومكررة، تعكس براعة المخرج في التقاط ما هو فردي على ضفاف من الصدفة، ثم التصعيد بالأحداث إلى أكثر من وجهة، بغية طرح جملة أسئلة في لجّة من الوقائع ثم يجري حصرها في كينونة أكثر من خيط درامي مشرّع على تداعيات شتى، لفهم طبيعة الراهن الذي يتوغل في تحوّلات الواقع وعلاقاته المضطربة، مع تدفق هواجس وأحلام وذكريات مقابل تحديات جسام في بيئة مثقلة بالعادات والسلوكيات والتقاليد الصارمة.

 

 

بأسلوبية سينما الواقع والنبش في دواخل شخصياته، دارت أحداث فيلم “بيت سلمى” لهنادي عليان، في إحدى المناطق الشعبية المطلة على العاصمة عمان، لتنسج من المكان حكاية بيت قديم هو إرث تتنازعه ثلاث نساء: زوجة أولى وابنتها، وهناك زوجة ثانية، يخضن في زحام واقع اجتماعي معقد، تواكبه الكاميرا بمهارة وافتتان، تبرز فيه تفاصيل ووقائع أثيرة في العديد من مسارات الفيلم الهادئة والتي لا تلبث أن تتصاعد، وهي تتقصى أحوال وهموم وتناقضات محملة بإشارات ودلالات بليغة.

 

 

تلتقط عليان تكوينات سمعية بصرية بعناية، كأنها شواهد على الأزمة التي تعصف بحياة ومصير كل من الشخصيات الثلاث في أجواء واقعية، تبدو فيه سيطرة المخرجة المحكمة على أداء لافت للممثلات: جولييت عواد وسميرة الأسير ورانيا الكردي، يتسم بالبساطة والسلاسة في التعابير المدهشة، وهذا من بين أبرز عوامل نجاح العمل وتأثيره البديع في الصدق والإقناع. 

 

 

“بيت سلمى” إضافة نوعية جديدة لمنجز السينما الأردنية، طرح موضوعه في مناخ درامي من السهل الممتنع، المجبول بأسئلة الحيرة والقلق والتوتر الدائم عن حال وخصوصية المرأة.

 

 

على نحو مغاير عما سارت عليه أفلام: “الحارة”، “بنات عبد الرحمن”، و”بيت سلمى”، التقطت المخرجة دارين سلام حقبة من الماضي القريب، صورت فيها أحداث فيلمها الروائي الطويل الأول “فرحة”، مستعيدة وقائع جسام عاشتها شرائح من المجتمع الفلسطيني إبّان نكبة العام 1948.

 

 

ومع إن “فرحة”، يسرد واحدة من الحكايات المتوارثة حول محطات من معاناة التشريد والتنكيل، إلا أنه يحمل جرعة من خيال المخرجة الخصب، الذي يجسد التباين الثقافي بين الفلسطينيين أنفسهم في خضم الصراع مع الاحتلال ومواجهته بأقصى ما لديهم من إمكانات محدودة وغير متكافئة.

 

 

يستكشف الفيلم الكثير من الطقوس والعادات والتقاليد الدارجة داخل أسرة فلسطينية تقطن في إحدى القرى، والتي باتت على موعد مع الموت والدمار والتهجير القسري، قبل أن تتوقف كاميرا الفيلم حول رب الأسرة الذي يقيم سياجاً داخل بيته لإخفاء ابنته الفتية ذات الأربعة عشر عاماً عن أنظار الغزاة، ريثما يعود بعد فترة وجيزة من انتهاء فترة القتال حسب قناعته، إلا أن الصراع يزداد سخونةً واشتعالاً بالقتل والتهجير، وتظل الفتاة تعاين كل ذلك من بين ثنايا فتحة في شباك باب محكم الإغلاق، وترى على أرض الواقع جحيم  النكبة، وما أفرزته من تلاوين العذاب والعنف على البسطاء.

 

 

يطرح “فرحة” الحائز على العديد من الجوائز العربية والدولية، موضوعه القوي والجريء، المتكئ على سيناريو محكم البناء والأفكار، بسلاسة وتوكيد على معنى الحرية، وضرورة الارتباط بالأرض والهوية، من خلال تركيز الفيلم على تفاصيل تحفر في المكان والدواخل الإنسانية في كل مستوياتها الذاتية والعامة، من خلال أفراد وجماعات، في اعتناء فائق بالنواحي الفنية يتأسس على إحساس لافت بمفردات اللغة السينمائية والدرامية، وتسخيرها ببراعة في منح العمل تساؤلات عميقة تدور في طرح عميق وواع حول المناخات النفسية والذهنية في بيئة بسيطة تشهد تحولات عصيبة.

 

 

شكل العمل حالة مغايرة في التعاطي مع هذا النوع من الأفلام، التي حاكت موضوع المسألة الفلسطينية، مثلما هو في النتيجة إضافةٌ نوعية لتلك السينما التي عانقت مناخات النكبة، سواء من ناحية رسم دقيق للعلاقات في حبكة درامية متينة تتناغم مع توظيف مفردات الأمكنة داخل البلدة ونماذجها المعمارية اللافتة كما في الكتّاب حيث يدرس الفتيان، إلى جانب فضاءات المسجد والبيوتات والحقول والطرقات والباحات.

 

 

في النتيجة، أثثت تلك الإنجازات السينمائية مجتمعة، المشهد الثقافي الأردني عامة، وعالم صناعة الأفلام خاصة، وأضاءته بأشكال من التعابير الجمالية الممتعة والرؤى الدرامية الجريئة في جنوحها الآسر إلى الواقع الصعب وأسئلته الفطنة.

ناجح حسن
ناقد وباحث وناشط سينمائي أردني، كتب العديد من المقالات والدراسات والأبحاث السينمائية في صحف ومجلات أردنية وعربية، ونشر مجموعة كتب في النقد السينمائي.